يُحْكَى أَنَّهُ كَانَ فِي غَابَة ذَاتِ أَشْجَارِ وَثِمَارِ، وَمَاءِ وَسَمَكَ، حَمَامَةٌ وَسُلَحْفَاةٌ وَجُرةٌ. كانُوا يَعِيشُونَ فِي هَنَاءِ وَوئامٍ، يَتَعَاوَنُونَ عَلَى الخَيْر، ويَتَضَامَنُونَ ضدَّ الشَّرُ، وَبذَلكَ، تَوَثَقَتْ عُرَى المَحَبَّة بَيْنَهُمْ، وَاتَّصَلَتْ أَسْبَابُ الانسجام في مَسْكَنهم.
وَذَاتَ يَوْم منَ الأَيَّام، وَبَيْنَمَا كَانُوا يَتَسَامَرُونَ وَيَتَحَدَّثُونَ في وُدٌ وَسُرُور، أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ غَزَالَةٌ لاَهتَةً مَذْعُورَةً تَتَلَفْتُ في خَوّف وَهَلَع يُمْنَةً ويُسْرَةً. فَبَادَرَتْهَا الحَمامَةُ قَائِلةً: مَا بِكِ يَا غَزَالَة وَلمَ هَذَا التَّلَفْتُ يَمينا وشمالاً ؟
كَأني بك هَاربَةً مِنْ خَطَر دَاهِم؟ قَالَت الغَزَالَةُ: بَلَى، إِنِّي لَفِي خَطَر عَظيم، فَقَدْ نَجَوْتُ من الموت بأعجوبة مِن شرك الصياد
فإني كنت أعيش في الصَّحْرَاءِ سَعِيدَةً مُسْتَأْنِسَةً بِإِخْوَانِي وَأَخَوَاتِي، حَتَّى دَاهَمَنِي صَيَّادٌ ، وَلاَ حَقَنِي بِبُنْدُقِيَّتِهِ يُرِيد حَتَّفي، فَهَربْتُ مِنْهُ، وَمَا كدْتُ أُصَدِّقُ أني
نَجَوْتُ فِعْلاً مِنْ قَبْضَتِهِ، وَمَا زِلْتُ أَجْرِي وَلَا أَلْوِي عَلَى شَيْءٍ، حَتَّى دَخَلْتُ الغَابَةَ وَاخْتَفَيْتُ وَرَاءَ الأَشْجَارِ المُلتَفَّةِ، وَسَاقَتْنِي الأَقْدَارُ إِلَيْكُمْ
قَالَت الحَمَامَةُ وَالسَّلَحْفَاةُ: لاَ عَلَيْكَ وَلاَ خَوْفَ مِنْ أَحَدٍ هُنَا، فَهَذَا مَكَانٌ نَاء، بَعِيدٌ عَن الأَنْظَار، لاَ يَعْرِفُهُ الصَّيَّادُونَ، فَإِنْ شئت الحَيَاةَ مَعَنَا هُنَا فَتَفَضْلِي، فَالأَكلُ وَفِيرٌ، وَالعَيْشُ رَغِيدٌ، وَالأَمِّنُ وَالحَمْدُ للَّه مُسْتَتبٌ . أَقِيمي مَعَنَا، فَنَحْنُ الثَّلاثَةَ هُنَا سَعِيدُونَ مُتَعَاونُونَ وَأَقَامَتِ الغَزَالَةُ فِي عَريش، إلى جوار الحَمَامَةِ وَالسَّلَحْفَاةِ وَ الجُرَد مُدَّةً وَهِيَ سَعِيدَةٌ هَنيئَةٌ
وَذَاتَ صَبَاحٍ افْتَقِدَتِ الغَزَالَة وَطَالَ غِيَابُهَا، فَقَالَتِ السُلَحْفَاةُ للحَمَامَة: اُنظُري هُنَا وَهُنَاكَ، لَعَلَّكَ تَجدينَ مَكَانَ الغَزَالَة أَوْ تَسْمَعينَ عَنْهَا شَيْئًا فَعَلَّقَت الحَمَامَةُ فِي السَّمَاء هُنَيْهَةً، ثُمَّ حَطَّت، وَقَالَتْ: إِنَّ الغَزَالَةَ فِي وَرَطَة مُميتة، لَقَدْ وَقَعَتْ في أُحْبُولَة صَائِدِ غَيْرَ بَعِيدٍ عَنْ مَكَانِنَا.
وَقَالَتْ لِلْجُرَدَ: هَذَا يُرْجَى فِيهِ غَيْرُكَ، انطلق خَلِّفِي لأريَكَ مَكَانَ الغَزَالَة فَانْطَلَقَ الجُرَدُ ،
وَلَحقَتْ به السَّلَحْفَاةُ فَسَعَى الجُرَةُ إلَى الْمَكَانِ، وَأَخَذَ يَحْتَالُ عَلَى الأُحْبُولَة بأَسنانه الحَادَّة حتى مَزَّقَهَا، وَتَخَلَّصت الغَزَالَةُ من الأَسْرِ.
وَانْطَلَقَتْ هَارِبَةً
وَقَالَت الحَمَامَةُ للسلحفاة: لِمَاذَا حَضَرْت إِلَى هُنَا، فَقَدْ يَعُودُ الصَّيَّادُ الآن فَيُلْقِي عَلَيْكَ القَبْضَ، فَأَنت لا تَمُلكِينَ جَنَاحَ الحَمَامَةِ وَ لاَ أَرْجُلَ الجُرَد للاختفاء
وَفِعْلاً، عَادَ الصَّيَادُ فَجَأَةً، فَلَمْ يَجِدْ غَيْرَ السُلَحْفَاةِ، فَأَلْقَى القَبْضَ عَلَيْهَا وَرَبَطَهَا إِلَى الشَّجَرَةِ بِحَبْلٍ مَتِينٍ، ظانًا مِنْهُ أَنَّهَا هِيَ التَّي مَزَقَتِ الْأَحْبُولَةَ عَن الغَزَالَة .
وَقَالَت الغَزَالَةُ: سَأَظْهَرُ للصَّائد حَيْثُ يَرَاتِي، فَإِذَا تَبِعَنِي عُدْتَ أَيهَا الجُرَدُ إلَى عَمَلِكَ الأَوَّلِ لِنُفِّرجَ عَنِ السُلَحْفَاةِ المِسْكِينَةِ.
وَقَالَتِ الحَمَامَةُ: سَأَكُونُ
مَعَكَ ظَهَرَت الحَمَامَةُ وَالغَزَالَةُ أَمَامَ الصَّيَّاد فَلَحق بهما، ظَانًا مِنْهُ أَنَّهُمَا صَيْدٌ ثَمِينٌ، حَتَّى إِذَا انْشَغَلَ بهِمَا انْقَضَ الجُرَةُ عَلَى الحَبْل لَيَفُكَ السَّلَحْفَاةَ مِنْ
أَسْرِهَا وَهَكَذَا تَخَلَّصت السُلَحْفَاةُ منْ هَلاك مُحَقَّق، وَنَجَت الغَزَالَةُ مِنْ مَوْت داهم بِفَضْل التَّعَاوُنِ الوَثِيقِ الذِي أَظْهَرَتْهُ الجَمَاعَةُ، وَبِرُوح التَّضْحِيَة وَالفَدَاءِ
الذي شملهمْ وَجَمَعَ بينهم.
الحكمة من القصة
بني العزيز
هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَمْرُ الْمُؤْمِن مَعَ إِخْوَانِهِ المُؤْمِنِينَ، يَقِفُ مَعَهُم في السَّرَّاءِ وَالضَرَّاء يَفْرَحُ لفَرَحهمْ، وَيَحْزَنُ لحُزْنِهِمْ، يَتَعَاوَنُ مَعَهُم لأَجل الصَّالح العام، ويَنْسَى نَفْسَهُ عِنْدَ حُلُول الخَطَّب، فلا يفكر إلا في أَمرهم، وَهَذَا مِصْدَاقًا لِقَوْله تَعَالَى
( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) المائدة
وَعَمَلاً بقَوْل الرَّسُول صل الله عليه وسلم : ” مَثَلُ المؤمنينَ فِي تَوَادُهُمْ وَتَرَاحُمهِمْ كَمَثَل الجسد الواحد إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ
بالحُمَّى والسهر”.
فكن من المؤمنين
إقرأ مزيدا من القصص:
قِصَّة نَبِيّا اَللَّه صَالِحٌ وَشُعَيْبْ عَلَيْهِمَا اَلسَّلَامُ