نهاية الطيش
تمت الكتابة بواسطة: عبد الحكيم
تارخ آخر تحديث: 26 ديسمبر 2024فصول القصة
نهاية الطيش
كَانَتْ تَعِيشُ فِي أَحَدِ الْمُرُوجِ الخَضْرَاءِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفرَاشَاتِ الجَمِيلَةِ، ذَاتِ الأَلْوَانِ الزَّاهِيَةِ، وَالْأَشْكَالِ الرَّائِعَة.
وَكَانَتْ إِذَا حَلَّ الرَّبِيعُ، وَتَفَتَّحَتِ الزُهُورُ في المروج وَالسُّهُول والحدائق وَالبَسَاتِينِ، رَاحَتْ تَطِيرُ فِي نَشْوَةٍ وَسُرُورٍ ، وَخِفَّةٍ وَحُبُورٍ، تَمْتَصُّ الرَّحِيقُ تارة وَتَطِيرُ فِي السَّمَاءِ تَارَةً أُخْرَى، مَزْهُوَّةً بِجَمَالِهَا ، فَرِحَةٌ بِحُرِّيَتِهَا.
وَكانَتْ إِذَا غَرُبَتِ الشَّمْسُ وَخَيَّمَ الظَّلامُ أَوَتْ إِلَى مَرْقَدِهَا لِتَسْتَرِيحَ مِنْ عَنَاءِ يَوْمِ طَوِيلٍ، وَلِتَسْتَعِدَّ لِيَوْمِ آخَرَ جَدِيدٍ، يَبْدَأُ بِبُزُوعْ أَوَّلِ خَيْطٍ مِنْ نُورٍ الفَجْرِ فِي الأَفُقِ الجَمِيل. وَكَانَتْ تَعِيشُ ضِمْنَ هَذِهِ المَجمُوعَةِ مِنَ الفَرَاشَاتِ، فَرَاشَةٌ صَغِيرَةٌ. تَأْخُذُ الأَلْبَابَ بِأَلْوَانِهَا الزَّاهِيَةِ، وَتَفْتِنُ القُلُوبَ بِخِفْتِهَا وَطَيَرَانِهَا.
وَكَانَتْ سَعِيدَةً كُلَّ السَّعَادَةِ إِلَى جَانِبِ أَسْرَتِهَا تَطِيرُ مَعَهَا إِذَا طَارَتْ وَتَحْطُ عَلَى الزُّهَورِ وَالأَشْجَارِ إِذَا حَطَّتْ، وَكَانَتْ أُمُّهَا تَقُولُ لَهَا : " خدار يَا ابْنَتِي أَنْ تَطِيرِي بَعِيدًا عَنْ أُسْرَتِكِ، أَوْ تَحُطي فِي مَكَانٍ نَاءِ عَنْ مَرْجِنَا أوْ سَهْلِنَا. وَقَبْلَ أَنْ تَحُلِّي عَلَى أَيَّةِ زَهْرَةِ تَأكدي جيّدًا مِنْ أَنَّهَا زهرَةً فِعلاً وَحَقِيقَةً، وَلَا تَحْسَبِي أَنَّ كُلَّ لَوْنِ أَحْمَرَ أَوْ بُرتُقالي هُوَ زَهْرٌ جَميلٌ وَدِيع، فَإِنَّ النَّارِ أَيْضًا لَوْنهَا أَحْمَرُ أَوْ بُرْتُقَالِيُّ، فَابْتَعِدِي عَنْهَا كُلَّ الاِبْتِعَادِ وَلاَ تَقْتَرِبِي مِنْ مَكَانِهَا مَهْمَا يَكُنِ الأَمْرُ، فَإِنَّ فِي ابْتِعَادِكِ السَّلَامَةَ وَفِي الاقْتَرَابِ مِنْهَا الوَيْلُ وَالخُسْرَان".
لِلأَسَفِ الشَّدِيدِ، فَإِنَّ الفَرَاشَةَ الصَّغِيرَةَ لَمْ تَنْتَصِحْ بِنَصِيحَةِ أُمِّهَا الغَالِيَةِ، وَإِنَّمَا اغْتَرَّتْ بجَمَالِهَا وَخِفَّتِهَا وَرَشَاقَتِهَا. فَرَاحَتْ تَسْتَعْرِضُ كُلَّ ذَلِكَ عَلَى الطُّيُورِ وَالفَرَاشَاتِ الأخرى، وَدُونَ أَنْ تَشْعُرَ أَخَذَتْ تَبْتَعِدُ عَنْ أُسْرَتِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، وتُحلِّقُ بَعِيدًا عَنِ السَّهْلِ وَالمَرْجِ الذِي تُربِّيَتْ فِيه. وَآذَنَتْ الشَّمْسُ لِلْمَغِيبِ، فَخَيْمَ الظَّلامُ، فَضَلَّتِ الطَّريق. وَشَعُرَتْ بالتَّعَبِ الشَّدِيدِ فَأَخَذَتْ تَبْحَثُ عَنْ مَكَانِ آمِن تَنَامُ فِيه.
وَفَجْأَةً لاَحَ لَهَا مِنْ بَعِيدٍ ضَوْءٌ أَحْمَرُ لاَمِعٌ مِنْ إِحْدَى نَوَافِذِ بَيْتٍ مِنَ البُيُوتِ، فَظَنَّتْهُ المِسْكِينَةُ وَرْدَةً حَمْرَاءَ جَميلَةً تَحُطُّ فِي أَحْضَانِهَا، وَتَنَامُ بَيْنَ أَوْرَاقِهَا حَتَّى الصَّبَاح، وَلَمْ تَتَذَكَّرْ وَصِيَّةَ أُمِّهَا بِأَنْ لَيْسَ كُلُّ أَحْمَرِ زَهْرًا، فَمَا كَانَ مِنْهَا، وَهِي الطَّائِشَةُ الخَفِيفَةُ، إِلا أَنِ اقْتَرَبَتْ مِنْ ذَلِكَ اللَّوْنِ السَّاطِع وَفي لمح البَصَرِ احْتَوَاهَا اللَّهيبُ فَاحْتَرَقَت. وَكَانَتْ نِهَايَتُهَا بَيْنَ اللَّهَيب المحترق لاَ بَيْنَ الرَّحِيقِ اللَّذِيذ.
العبرة من القصة القصيرة نهاية الطيش:
بنَى العَزيز، هَكَذَا كَانَتْ نِهَايَةُ الفَرَاشَةِ الصَّغِيرَة نِهَايَةً مُؤْلَةً، لأنَّهَا لَمْ تَعْمَلْ بِنَصِيحَةِ أُمِّهَا حِينَ أَمَرَتْهَا أَنْ تَحْتَاطَ لِنَفْسِهَا، فَتَبْتَعِد عَنْ مَوَاقِع الخَطَرِ وَأَلا تَنْقَادَ لِهَوَاهَا فَتَضِلُّ وَتَغْوى والا تَغْتَر بالمَظَاهِرِ فَقَدْ يَكُونُ فِيهَا المَوْتُ وَالهَلاك.
إنَّ الْمُؤْمِنَ التَّقِيَّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ يَحْتَاطُ لِلأَمْرِ قَبْلَ وُقُوعِه، وَيَحْذَرُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ فَلاَ يَقْتَرِبُ مِنْهَا، وَيَنْأَى عَن المُنْكَرَاتِ فَلا يَحُومُ حَوْلَهَا مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِي وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن [الانعام 151] فَاعْمَلُ بأمر الله حَتَّى لا يَكُونَ مَصِيرُكَ مِثْلَ مَصِير الفَرَاشَةِ وَالعِياذُ بالله.