في إحْدَى الغَابَات الْمُلْتَفَّة الأَشْجَارٍ كَانَتْ تَعيشُ جَمَاعَةٌ منَ الحَيَوَانَاتِ الْمُتَوَحْشَة
وَالزُّواحِفِ السَّامَّةِ، وَكَانَ مِنْ بَيْنهَا الأسُودُ وَالجُرِذَانُ أَيْضًا وَذَاتَ لَيْلَة وَقَدْ صَارَ القَمَرُ بَدْرًا في السَّمَاءِ، تَسَلَّلَ تُعبَانٌ كَبِيرٌ إِلَى جَمَاعَة الجُرْذان لِيَسْطُوَ عَلَى بَعْضٍ مِنْهَا، وَقَدْ حَدَثَ ذَلِكَ فِي غَفْلَةٍ وَأَمَان مِنْهَا، وَرَاحَ يَزْحَفُ بِبُطْءٍ وَحَذَرٍ إِلَى أَنْ وَصَلَ فَتْحَةَ الجُحْر مَسْكَنَ الجُرْذَان، وَأَدْخَلَ رَأْسَهُ لِيَلْتَقمَ وَاحِدًا مِنْهَا، وَكَانَ الخَطَرُ مُحَقَّقًا وَالهَلاَكُ وَاقعًا لاَ مَحَالةَ لأَنَّ الجُحْرَ لَهُ مَنْفَذ وَاحِدٌ وَمِنْ حَسَن حَظِّ الجُرْدَانِ أَنْ كَانَ إِلَى جَانب الجُحْرِ أَسَدٌ جَاثِمٌ.
وَتَفَطَّنَ إلَى الخَطَر المحدق بالجرذان، فَزَأرَ زَأرَةً قَويْةٌ رَدَّدَتْ صَدَاهَا الغَابَةُ، وَفَرْعَتْ الحَيَوَانَاتُ
وَالطُّيُورُ، فَمَا كَانَ من الثعبان إلا أنْ ذُعرَ وَفَرْعَ وَخَافَ فَأَخْرَجَ رَأسَهُ بِسُرْعَة وَفَرَّ مِنَ المكان مُتَسَلِّلاً بَيْنَ الحَشَائش قَبْلَ أَنْ يُدْركَهُ الخَطَرُ، وَيَقَعَ بَيْنَ بَرَاثن الأسد القوية وَهَكَذَا نَجَت الجُرْذَانَ مِنْ مَوت مُحَقق وَهَلاكَ دَاهِم .
وَذَاتَ يَوْمٍ خَرَجَ الأَسَدُ كَعَادَتِهِ للصَّيْدِ، وَرَاحَ يَتَجَوَّلُ فِي الغَابَةِ بَحْثا عَنْ فَرِيسَة يَسُدُ بهَا جُوعَهُ، وَفَجَأَةً، وَفِي غَفْلَةٍ مِنْهُ سَقَطَ فِي فَجٍّ كَبِيرٍ مَصْنُوعِ مِنْ جِبَالِ متينة، كَانَ الصَّيَّادُونَ قَدْ وَضَعُوهَا لاصطياد حَيَوَانَات الغَابَة .
وَأَخَذَ الأَسَدُ يَتَخَبَّطُ بَيْنَ الجِبَالِ التِي أَطْبَقَتْ عَلَيْهِ مِنْ كُل جانب، وَاسْتَخْدَمَ كُلَّ إمْكَانَاتِهِ العَضَلِيَّةِ القَويَّةِ، وَعَضَّ بِأَنْيَابهِ دُونَ جَدْوَى لأَنَّ الفَخ كَانَ شَدِيدَ القوة، مُحْكَمَ الصَّنْعَة.
وَبَعْدَ أَنْ هَدهُ الإعْيَاءُ، وَنَالَ منْهُ التَّعَبُ، أَخَذَ يَزْأرُ مُسْتَغِيثًا وَالغَابَةُ تَهْتَزُّ جَنَبَاتُهَا مِنْ قُوَّة زئيره وَشَدَّة اسْتغَاثَته وَسَمِعَتْهُ الجُرْدَانُ فَأَسْرَعَتْ إِلَيْهِ، وَكَانَتْ مَجْمُوعَةً هَائِلَةٌ، وَقَدْ أَدْرَكَتْ بِغَرِيزَتِهَا أَنَّ الأَسَدَ فِي وَرَطَة شَدِيدَةٍ، وَهَلاكَ مُحْدِق
وَمَا إِنْ وَصَلَت الجُرْدَانُ إلَى الفَحْ حَتَّى أَخَذَتْ تقرضُ الحَبَالَ بأَسنانها الحادة. وَأَحَاطَتْ بالفَحْ مِنْ كُلِّ جَانب، تَقْطَعُهُ بقَواطعهَا دُونَ كَلل أو ملل
وَاسْتَمَرَّتْ فِي عَمَلهَا جَادَّةً كَادَّةً لتُخَلِّصَ الأَسَدَ مِنْ وَرَطَته قَبْلَ وُصُول الصَّيَّادِينَ إلَيْه لَمْ يُتْهَا عَنْ عَزْمِهَا ضَآلَةُ أَحْجَامَهَا وَلاَ ضُعْفُ أَجْسَامِهَا، فَقَد اعْتَمَدَتْ عَلَى عَدَدِهَا الكَثِيرِ وَجَمَاعَتِهَا المُتَعَاوِنَة
وَهَكَذَا لَمْ تَمْضِ سَاعَةٌ مِنْ زَمَن حَتَّى قَطَعَتْ جَانِبًا مِنْ جِبَال الفَخّ، فَاسَتَطَاعَ
الأَسَدُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ إِلَى فَضَاءِ الحَرِّيَّةِ، فَنَجَا مِنْ قَبْضَةِ الصَّيَّادِينَ بِأَعْجُوبَةٍ . تَوَجَّهَ الأَسَدُ بالشكر الجزيل مُخَاطبًا الجُرْذَانَ قَائلاً: “بَارَكَ الله فِي جَمَاعَتِكُمُ المُتَعَاوِنَةِ، وَوَفْقَكُمْ إِلَى تَضَامُن دَائِم فَلَولا تَعَاوُنُكُمْ لَكُنْتُ الآنَ بَيْنَ أَيْدِي الصَّيَّادِينَ وَاللهُ وَحْدَهُ يَعْلَمُ كَيْفَ وَأَيْنَ يَكُونُ مَصِيري . وَرَدَّ عَلَيْهِ زَعِيمُ الجُرْدَانِ قَائِلاً: “إِنَّ التَّعَاوُنَ بَدَأَ مِنْكَ أَيُّهَا الأَسَدُ العَظيمُ، فَنَحْنُ لا نَنْسَى يَوْمَ خَلَّصْتَنَا مِنَ الثَّعْبَانِ
الذي أَرَادَ أَنْ يَفْتَرسَنَا، وَكُنَّا منْ مَقْرُبَة نَابِهِ السَّام المخيف، فَلَوْلا زَأرَتكَ المَدَويَة التي أفزَعَتَهُ لأَصْبَحْنَا في بَطْنه يَسْحَقُنَا بعضلاته فَكَمَا أَعَنتَنَا فِي رَخَائِكَ، أَعَنَاكَ فِي شِدَّتِكَ، وَالفَضْلُ لِمَنْ يَبْدَأُ بِالإِحْسَانِ عَلَى كُل حَالَ وَمُنْذُ ذلك الحين، تَوَطَّدَت العلاقاتُ الحَميمَةُ بَيْنَ الجُرْذانِ وَالأَسَد فَعَاشَت .
الجُرْدَانُ في كَنَف الأَسَد في أَمن وَهَنَاء وَاسْتقْرَار .
العبرة والحكمة من القصة
بني العزيز
لَعَلَّكَ فَهَمْتَ مِنْ هَذه الحِكَايَةِ الجَميلَة كَيْفَ يَنْبَغِي عَلَى الإِنْسَانِ أَنْ لا يَحْتَقرَ مَعُونَةَ الغَيْر مَهْمَا يَكُنْ هَذَا الغَيْرُ جَلِيلاً أَمْ حَقِيرًا، فَالإِحْسَانُ صفَةٌ من صفات المؤمنينَ الصَّادِقِينَ، يَنْبَغِي أَلا يَبْخَلَ بِهَا عَلَى أَي مَخْلُوقِ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللهِ، فَإِنَّ الله قَدْ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى نَفْسه، وَفَرَضَهُ عَلَى خَلْقَه .
وَقَدْ وَعَدَنَا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِأَنَّهُ لَنْ يُضِيعَ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أَبَدًا، يُجَازِيهِمْ عَلَى إِحْسَانِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَيُعِدُ لَهُم أَجْرًا عَظِيمًا في الآخرَة، كَمَا جَاءَ فِي قَوْله تَعَالَى:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَنِ وَإِيتَاي ذِي الْقُرْنَ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )
النحل: 90
وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَالَّذِينَ هُم محْسِنُونَ )
النحل: 128
إقرأ أيضا: قصة عاقبة الغرور